الاخبار العامة

أغرب سرقات العراق بالوثائق… هل دخلت فضيحة مليارات الضرائب بازار تشكيل الحكومة؟

النهار

بغداد – أحمد حسين:
ربما لم يتطلب اكتشاف “السرقة الأغرب في تاريخ العراق” أي استقصاء كما يقول وزير المالية العراقي (الموقّت ثم المستقيل) إحسان عبد الجبار، إلاّ أنّ حجم الفضيحة الجديدة وتوقيتها فتحا باب التساؤلات واسعاً حيال المتورطين والمستفيدين الحقيقيين، فضلاً عن تأثير الملف على معادلة تقاسم السلطة خلال المرحلة المقبلة.
وبالنظر إلى تفاصيل الواقعة التي وصفتها حكومة تصريف الأعمال بـ”جريمة خيانة الأمانة”، فإنّ الأموال الطائلة التي بلغت نحو 2.5 ملياري دولار قد نقلت بالعملة العراقية، يدوياً، بواسطة شاحنات من مقرّين لمصرف الرافدين في العاصمة بغداد لصالح خمسة أطراف، وفق صكوك رسمية أصدرتها هيئة الضرائب وخلال وقت قصير جداً، في مؤسسات يتطلب إنجاز ملف تقاعد موظف صغير فيها أعواماً في بعض الأحيان.
ويشي تتبع الأحداث وتدقيق الوثائق الرسمية، بتورط شبكة واسعة تضم مسؤولين تشريعيين وتنفيذيين كباراً في الواقعة التي استمرت على مدى نحو عام.
ضربة البداية!
تبدأ القضية بطلب رسمي رفعه رئيس اللجنة المالية للدورة السابقة في البرلمان هيثم الجبوري بتاريخ 13 تموز (يوليو)، يتلخص بمقترح لإلغاء دور ديوان الرقابة المالية ضمن إجراءات تدقيق صرف أمانات هيئة الضرائب، التي تعود معظمها إلى شركات عاملة في القطاع النفطي، موجهة إلى وزارة المالية، ثم موافقة وزيرها آنذاك علي عبد الأمير علاوي استناداً إلى سلسلة مخاطبات بين مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وديوان الرقابة المالية.
وتنص إحدى المخاطبات الصادرة عن ديوان الرقابة، على أنّ الأخير “يؤيد” ما جاء في مقترح الجبوري الذي تولى بعد انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي مهمة مستشار الكاظمي للشؤون الفنية.
في الأثناء، كان المشتبه في تورطهم، بوصفهم “واجهات أطراف سياسية نافذة”، قد انتهوا من أوراق تسجيل شركات وهمية برأس مال لا يتجاوز 680 دولاراً لكل واحدة، حيث تقول أطراف برلمانية إنّ “منفذي السرقة” كانوا على اطلاع مباشر ودقيق بكل ما يتعلق بحركة المال في حساب أمانات هيئة الضرائب.
وتكشف جردة حساب صادرة عن وزارة المالية أنّ رصيد الأمانات سجل طفرة في الأشهر الأولى من عام 2021 بمبلغ فاق 3.8 تريليونات دينار عراقي، في أعلى ارتفاع على مدى سنوات، قبل أن تبدأ “عملية السرقة المنظمة” عبر 247 صكاً بعشرات المليارات حررتها لجنة بإدارة رئيسين لهيئة الضرائب هما سامر عبد الهادي الربيعي وخلفه أسامة حسام جودة الذي أعفي إثر الفضيحة.
قائمة طويلة
ومع أنّ وثائق أخرى متعلقة بالقضية، إحداها صادرة عن هيئة النزاهة، تكشف عن مؤشرات مبكرة في شأن شبهات تشوب إجراءات صرف المبالغ الهائلة، فإنّ التحقيقات الفعلية استغرقت أكثر من عام لتبدأ من أروقة القضاء بمذكرات استقدام وأوامر حجز أموال، وفق أطراف في اللجنة المالية تحدث إليهم “النهار العربي”.
وبخلاف قائمة المتهمين الأساسية التي تضم 12 اسماً مرتبطين بالشركات الخمس، ومسؤولين وموظفين في هيئة الضرائب ومصرف الرافدين، اتسع الحديث مع مرور أيام على تفجر قضية، ليدور عن “شبكة مافيات” تضم شخصيات بارزة ورؤساء سلطات وزعماء ومستشارين فاعلين.
في المقابل، أصدر علاوي بياناً مطولاً يخلي فيه مسؤوليته عن وقائع القضية، ويبرر الموافقة على مقترح صرف الأمانات الضريبية دون تدقيق من ديوان الرقابة المالية بـ”تأييد مكتب الكاظمي والديوان مقترح حصر الإجراءات بهيئة الضرائب”، قبل أن يصدر شخصياً أمر إيقاف الصرف في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، حيث تجاهلته الهيئة بـ”وقاحة بسبب الولاء لجهات حزبية متنفذة تسترزق من حيتان الفساد وتوفر الحصانة للفاسدين”، على حد تعبيره.
الوزير أشار أيضاً إلى مذكرة استقالته التي تحدث فيها عن تغلغل شبكات الفساد واستحالة إصلاح مؤسسات الدولة في ظل النظام القائم، داعياً في الوقت ذاته إلى تدقيق حسابات الأمانات الأخرى في الدولة، ومن بينها حسابات هيئة الجمارك.
أما الجبوري، فقد تذرّع بأنّ ما قام به “لا يعدو كونه مقترحاً”، محملاً في تصريحات تلفزيونية الجهات التنفيذية مسؤولية تطبيقه. كما رفض اعتبار القضية سرقة على الأقل بحجة أنّ القضاء لم يبت فيها بعد، وأنّ الأموال تعود إلى شركات نفطية أجازتها جولات التراخيص.
مطار بغداد مجدداً!
وفي آخر تطورات الملف، تداولت شخصيات على صلة بأطراف سياسية، فجر أمس السبت 22 تشرين الأول، معلومات عن تهريب شحنات ضخمة من الأموال عبر مطار بغداد الدولي، بعد استبعاد الشركة البريطانية المسؤولة عن أمن المطار “G4S” قبل موعد انتهاء عقدها الرسمي، لصالح شركة جديدة تحوم حولها هي الأخرى شبهات كبيرة.
رداً على ذلك، أصدرت سلطة الطيران المدني بياناً مستعجلاً نفت فيه هذه المعلومات، مؤكدة أنّ “عقد الحماية الأمنية أبرم مع شركة كندية انطبقت عليها المعايير والمواصفات المطلوبة لحماية المطار”.
 
“سجناء أو وزراء”!
بموازاة ذلك كله، دخل الملف سريعاً في إطار سياسي بحت بدأ باجتماع النائب الأول لرئيس مجلس النواب محسن المندلاوي مع شخصيات رفيعة من الكتل الكبيرة في البرلمان، في ظل حديث عن إمكانية إبرام اتفاق مع الجهات المتورطة قد يشمل الكابينة الوزارية المقبلة.
ويقول عضو اللجنة المالية مصطفى سند إنّ “الملف يفوق قدرة اللجنة لما يتضمنه من جنبة سياسية وارتباطات مستعصية على الحلّ بشكل فنيّ”، مع الأخذ في الاعتبار أنّ معظم الأموال استثمرت في عقارات أو ربما نقلت إلى خارج البلاد.
ولا يخفي سند المقرب من الأطراف السياسية الشيعية الموالية لطهران، أنّ ملفات الفساد من هذا النوع “متشابكة وتشمل أطرافاً من الإطار التنسيقي والتيار الصدري ولا يمكن حلّها إلاّ بقرار سياسي”، مشيراً في تصريح إلى “بوادر صفقات مع المتهمين لإعادة جزء من الأموال مقابل ربما التنازل عن الحق في الإجراءات القانونية والجزائية”.
ويؤكد سند أنّ “المسؤولين عن السرقة ربما ينتهي بهم الحال سجناء، أو وزراء في الحكومة المقبلة”.
ما علاقة التيار الصدري؟
بدوره، يقول مسؤول في التيار الصدري لـ”النهار العربي”، إنّ “الاتهامات الموجهة إلى الصدريين بهذا الصدد لا تعدو كونها جزءاً من الهجمة الإعلامية التي يواجهها التيار الصدري على خلفية مشروعه السياسي الراهن في البلاد”.
ويبيّن شريطة عدم كشف هويته بالنظر إلى الموقف الراهن لزعيم التيار مقتدى الصدر بعدم الانخراط في السياسة، أنّ “هذه الاتهامات لم تحمل أي دليل، والملف برمته أمام القضاء ليشخص المتهم الحقيقي في القضية”، نافياً امتلاك معلومات، بخلاف ما نشر، عن الجهات المتخفية خلف الشركات الوهمية.
 
“دعاية الإطار”
ومع حماسة أطراف سياسية شيعية محددة للملف وصمت أخرى، فإنّ القضية برمتها قد تسخّر لـ”إيهام الرأي العام”، وحرف النظر عن جرائم فساد كبرى وعمليات اغتيال تتهم الأطراف ذاتها وميليشياتها بالوقوف خلفها.
ويقول الصحافي أحمد السهيل لـ”النهار العربي” إنّ “الإطار التنسيقي يحاول أنّ يصور القضية كمساحة انتقام من حكومة مصطفى الكاظمي، بوصفها الفاسد الوحيد، وترويج الحكومة المقبلة كمنقذ يستطيع حلّ الأزمات الكبرى”.
ويشدد السهيل على ضرورة “كشف جميع المتهمين ومن يقف خلفهم من مسؤولين، في حال كانت هناك نية حقيقية لمكافحة الفساد”.
ويرى أنّ “سياق إدارة القضية سياسياً بالشكل الحالي ينبئ بأنّ الأمر لن يفضي إلى نتائج حقيقية، باستثناء استغلال الملف كورقة ضغط لانتزاع بعض المناصب والمفاصل الأمنية والاقتصادية بسرعة”.
وفي السياق ذاته، تؤكّد الخبيرة في الشأن الاقتصادي سلام سميسم أنّ التعامل السياسي مع ملف فساد بهذا الحجم قد يمثل ضربة كبيرة لسمعة العراق دولياً على صعيد التعاملات المالية والاستثمارات.
وتقول لـ”النهار العربي” إنّ “الطريق الوحيد الممكن لاستعادة الأموال ومحاسبة المتورطين، يكمن في إجراءات فنية جادة تستند إلى تحقيقات الجهات المختصة”.
وتحذّر سميسم من أنّ “إقحام الملف ضمن أي صفقة سياسية يعني ضياع الأموال والحق العام بمعاقبة المجرمين، وحلقة جديدة في مسلسل انعدام الثقة بالنظام القائم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى