قراءة :عبد الكريم عيسى
تمثل نصوص هذه المجموعة القدرة على انتاج عدد من الرؤى وافعال الكلام ,حيث قصدية التوظيف لحيوية التشابك السرد- شعري الدلالي ودقة اتحاد الدوال كترميزات صورية مع مداليلها كمفاهيم مجردة .كما ان الشاعر(عدنان عزيز دفار)يميل في تدفق لغة نصوصه الى كسر القواعد المعيارية ,باحثا عن شرارة الشعر والتركيز على الرسالة اللغوية وسعيه الى تقديم عناصر الادهاش وكسر افق الانتظار والرتابة.
اضافة الى ذلك ,يمنح اهتمامه الى اثراء مستوى اللغة والتعامل التجريبي معه .فنرصد في نصوصه مديات تواصلية في العلاقات الاجتما-ثقافية وبين عناصر اللغة ,من ناحية, والعناصر الغير اللغوية من ناحية اخرى ,بطاقة تبادلية تاثيرية.وعليه ,تستند طريقة توظيفه على خلق علاقات كنائية يمكن ادراكها زمكانيا؛ حيث قوة المحايثة في استعمال اليات التجاور وما تحدثه من تاثير في فسحتها الايحائية؛ الى جانب فاعلية اليات اشتغال التوظيف الاستعاري القائم على التشابه :
“النهر يمر وسط المدينة شقي لا يأبه بأحد؟
الناس ينظرون الى النهر بسخرية لانه
لا يطفئ عطشهم
النهر نحيل رثته الضفاف ,ص20″
بناءً على ذلك ,يقيم الشاعر روابطاً بنيوية بين مفردات اللغة ووقائع الحياة ,سيما,لحقبة مابعد عام التغيير ,2003 في العراق الى يومنا هذا وما استبطنته من اوضاع مأساوية وتشويه للهوية العراقية وسطوة مظاهر العنف و الاقتتال الطائفي والمناطقي ,وسوء ادارة الدولة في شتى ميادينها ,وتفشي الفساد وإفشاء ثقافة اللادولة,ومتاهات الفوضى ,وهدر المال العام وانتاج واعادة انتاج مظاهر القبح والتخلف الحضاري والثقافي. وبوسعنا معاينه ذلك في (نص 12) ايضا حين يقول :
” ……………..النهر
اوجد لهم الجسر,هم يسخرون من الجسر
لانه قطع اوصالهم ولم يجمع شملهم ….
النهر….
الناس..
جثث تطفو؟,ص20″
مما يجعل خبراته الشعرية تتموضع في سياقاتها الثقافية و الجمالية ,محررا اياها من الذاتية المغلقة الى موضوعية تسويقها تداوليا ,ومشتركات اسقاطها على الذاكرة الجمعية وسريان تدفقها زمكانيا في المجرى المشترك للخبرة في الحياة وما يحيط بها من ظروف مادية واجتماعية.
والى جانب اشتغاله على بنية لغوية ذات تشظي دلالي متنوع يخدم الغرض الشعري ,الاانه لا ينغلق على النص ,حسب ,بل يغذي حركية نصوصه بالمراجع الخارجية و السياقات اللغوية التناصية وفي الوقت نفسه ,تعمل الذات الممثلة بالشاعر والقارئ في المرسلة الشعرية لنصوص كتاب (لحم ابليس), حضورا يتفاعل ويرتبط بظروف مابعد 2003 في العراق, وما رافقتها من تحولات وازمات سياسية وغيرها من وقائع الحياة اليومية المتصلة بمصير الانسان وتمزق الكيان الاجتماعي وتشوهات الهوية من خلال توظيفه للمستويات اللغوية واللسانية بكفائة موفقة .فيلاحق اهم الظواهر والهموم الجمعية وتفاصيل واقعه وما يعانيه من اضطراب وتشوش وحياة حروب وما لها من اثار نفسية على المجتمع. فتلامس نصوصه البيئي واليومي لحياة الانسان العراقي ,سيما ,الشرائح محدودة الدخل ,الاكثرتضررا ,فضلا عن جميع السياقات و التحولات العامة في حياة الناس . كما يمتلك الشاعر وعيا شعريا في المناورة بتكريس لعبة الكتابة وفنيتها وشعريتها طاقة ديناميكية وتربطا تعاضديا وعضويا .
ويحمل العنوان الرئيس (لحم ابليس)تشظيا علاماتيا ودلاليا واسع الطيف لنصوص هذه المجموعة الشعرية الذي اكتفى به الشاعر كبوابة مفتاحية ,اثرائية ورئيسية لنصوص فرعية مرتبة بطريقة رقمية (1-65), فاسحا لنا المجال لكيفية الامساك بالمضمون الكلي وانشباكه دلاليا مع المضامين الاخرى الجزئية ودخوله في حيزه المكاني والزماني ومحليته العراقية وما تبرهن عليه تفاصيلها.و من الممكن ان نمسك بشفرات محليتها ,مع عدم نفي افاقها الانسانية الاشمل ,من خلال الإيحاءات الاسلوبية للشاعر وطريقة تفكيره بالواقع وما يشتغل عليه من تقانات توظيف ومقاصد وانزياحات لغوية.
في هذه النصوص نلمح احتجاجا يركز على تحفيز الممانعة الثقافية لدى الشاعر-المثقف وهو يشاكس بأداوته الشعرية الافكار السوداوية و الانفلات من اسر مزاجية المؤسسة الرسمية وتعاملها الفوقي مع المثقف و الاديب والاعلامي.
وعلى الرغم من فسح المجال لحرية التعبير للمشهد الثقافي بعد 2003 والظهور النوعي والكمي للمنجز الثقافي بشتى تجلياته الادبية والمعرفية والفكرية ,بيد انه ولد في بيئة تعاني من مأزق سياسي واجتماعي بما تسبب في تفشي ازمة اخلاقية وروحية وايديولوجية وشعور بالاسى والاحباط .وكستراتيجية رئيسية لنصوص هذه المجموعة الشعرية ,هي التصدي لتبني مشروع مقاومة ثقافية إزاء السلوك العشوائي للقوى التي افرزها التغيير ,سيما,مظاهر العنف والتشظي والانهيار في التركيبة الداخلية للمجتمع ,و ركون الحياة الى محاصصات سياسية مقيتة والعمل على ترسيخ الطائفية المذهبية وحتى القومية وإضعاف الهوية الموحدة للشعب. فثمة مواجهة للسياسات النفعية في قمع الحريات .فيتحرك برؤية مشاكسة لذلك:
“كان يرى في اجنحة حمامات الحرية التي
يريد ان يحلق بها بعيداً عن أسوار المدينة
عن الرجال المدججين بالسلاح وتعاليم
رجال يرتدون بزة بتصميم واحد, ص34”
فنراه مسكوناً بهاجس الحرية والبحث عن الهوية والوجود والمعنى:
“…………………….في اروقة
الخلاص عيون صفراء تلتصق بالجدران في
ازقة مظلمة ترصد الدموع في محاولة
لتصنيعها اقداح خمر محاولة اولى لصنع
الهتهم الاولى كان لابد من ازاحة
الغبار عن وجوههم وكانوا اشد ما يخشونه
ان يعرفوا لمن تلك الوجوه ولمن تلك الاقنعة …..ص31”
مما يفضي الى خلق جو ثقافي يتسع لتفعيل قيم الحوار والجدل والاسئلة.وتحمل رسائله الشعرية الواعية رؤىً جديدة وافكارا وعقلا نقديا جديدا ,كاسراً تاريخ خوفه من الرقابة القديمة على اطلاق متبنياته.
يستقي موضوعاته من الواقع من خلال منظور مأساوي وتأملي في اعماق ذاته متجاوزاً حدود الاستجابة للواقع ,لما يهدف اليه من سبر اغوار النفس وما يحمله من ميل الى التفكير والتمازج او التذاوب بين الفكر والشعور.ويمزج في نصوصه الوانا من الغربة في المكان والزمان ,في الحياة والموت منطلقا من هم جماعي :
“………….دائما لم يبقى غير ان نغير
في شكل اصطفافنا وننتظم للقادم العنيف
بطرق اخرى ونترك اشلاءنا تتمزق تتبعثر
على الارصفة المتربة في الساحات ,انهم
يتخذون منا ممرا الى النعيم ويحملون المنايا
التي تتكدس كعلب الحلوى الفارغة إلا
من دمائنا .انهم اولاد يعبثون في محبة الله
وينظرون الى الارواح المفتولة بخيوط الدخان
المتصاعد ,ص60”
فهو دائم البحث عن كينونة شعرية تتجسد فيها معاني الحياة والموت ,وتلتقي ذاته كشاعر بهموم مجتمعه ,جاعلا موقفه من الذات والكون والزمن والجماعة موقفا تمليه الرغبة في الحياة والتغلب على التحديات التي يراد فيها موت الذات وموت الزمن ومحو الوجود الوطني او تشويه للهوية الوطنية :
“الزمن معلق على الحائط يتدلى من رقبته..
القاعة ممتلئة برجال يحملون على اكتافهم رغبة
الاختباء ,يتدافعون نحو الزوايا
التي تكتظ بها الظلمة ,لكن ثمة طفل صغير
ينسل من بين الجموع بيده شمعة ,ص8”
فنرصد من خلال هذا الاداء السرد- شعري ,تجسيدا لمعاناة حقيقية للخراب والدمار ورخاوة الحاضر التي تعيق عملية التحول متجها الى حالة وسطى بين الحياة والموت .وعلى العموم ,يتسم السياق اللغوي لنصوص مجموعة (لحم ابليس) بصدورها عن صوت للشاعر ,يرتد اليه .فهو ابن واقعه بكل مكوناته ,وتميل نصوصه الى الهمس والايحاء والاشارة وقدرة على التحلل من الارتباطات والسعي الى انتاج علاقات جديدة.ويفيض في صوره المجازية وتعالقاتها الاستعارية والكنائية ويستقي من معطيات واقعه ,مفككا اياها بكفائته اللغوية وقدراته الادراكية ,مانحا اياها انساقا مغايرة ,فتغدو نصوصه مكتفية بذاتها مع تغذيتها بأطر مرجعية لا تنفصل دلالاتها عنها :
“الوادي يلتحف اطراف الصحراء الممتدة لأعماق
روحه ,التي تتكور في ذلك الجسد النحيل ,
يرتدي إزارا ابيض ويعصب الحكمة في اقواله
التي تستمر .يدقها على الحيطان الواحا ووصايا ,ص23.”
مما يجعل لغته غنية بمستواها العلاماتي المفرداتي المتوائم في مستويات جملية نحوية مكيفة مع السياقات النصية الادراكية .المحفزة لمديات موفقة من الانتاج الدلالي .اذ يتحول فيها المرئي الى اللامرئي على سطح اللغة الى ماهو مضمر في البنية العميقة لها .ومهما يكن من اداء اثرائي علاماتي ودلالي موفق الا انه يتفاوت بمدياته التوصيلية في الفهم والافهام والمتعة الفنية والجمالية من موضع الى اخر .
ومن الجدير بالذكر, ان الشاعر (عدنان عزيز)يتكأ على استدعاء خزين الذاكرة بطريقة موفقة جدا لاكتشاف الاشياء عبر الذات ,ليعيد تعينها باشكال محددة ومكثفة وتعيين خواصها وفقا للمشهد الشعري ذاته..
توالت نصوص هذه المجموعة الشعرية بطريقة منبثقة من العنوان الرئيس ..تتحرك متفاعلة ومتعالقة بمغزى مشترك وان تنوعت الياتها الفنية والجمالية ورحابة تأويلاتها ,مما يخلق من التشتت وحدة منتظمة ,وتحويل التشظي الى تماسك جمالي .فينحو الشاعر الى تكوين سياقات حافلة بذاتيتها الخالصة من ناحية ,والمنشبكة بمدياتها التواصلية التاويلية مع محيطه المجتمعي ,من ناحية اخرى .كما تشتغل انظمة التكثيف في نصوص هذا الكتاب على التجريد وضبابية الدلالة والحذف وكسر السياق وتشظيه او تبديده ,واستثمار تقانة النهاية وابراز المفارقة والادهاش في قفلاتها التي غالبا ماجاءت موفقة وتتدفق لغة النصوص عبر سلسلة الجملة المتحركة في بنية نصية دائريةٍ منضمة الى بعضها في التحفيز والاستثارة والتولد على المستوى الصوتي والمفرداتي وبناء الجمل القصيرة المتماسكة في المستوى السياقي الكلي للنص .وتعمل مخيلة الشاعر على اختراق الحواجز وصولا الى منطلقاتها .وعبر الية الاداء الاختزالي ,ينجح الشاعر في خلق توتر ايمائي واثق لكمونه في البنية اللغوية للنص ,مما يساعد المتلقي المشارك ان يتجه نحو جوهر النصوص ,وفي ضوء ذلك ,تنماز نصوص هذه المجموعة الشعرية بانها مضغوطة وبعيدة عن الوقوع في الترهل والتبذير اللغوي ,يزيل بها الشاعر ذاته بانتقالاته من الـ(انا) الى الـ(هو) مغيبا الذات من المشهد ,ومحاولا الوجود من جانب خفي مما يسهم في خلق التوتر وتنشيط شعرية النص .ومهما يكن من توظيف في الاداء التجريدي ,نلاحظ ايضا حدوث مواضع خلل في ادامة زخم قوة التعاضد والتعالق بين الاشياء وارباكا ,احيانا ,في العلاقات السياقية لبلوغ دورها الوظيفي بقدرات اعلى وبالرغم من ميله الى التجريد ,وان جاء بدرجات متفاوتة في الغموض,يمنحنا كوناً شعريا,بيد انه يتسبب في تقليص الانجاز الدلالي ,ومع ذلك ,فهو يمنحنا ,بالتوازي قدرة تاويلية ومتابعة الكلي بالجزئي والثابت بالعابر ,مستغنيا عن الاضافات والصفات وكثرة الضمائر المستترة ,ومحتفيا بقول الجملة لا بالكلمة. وبذات الاداء ,يقدم لقطات للمدينه, مستوعبا المكان والزمان ,والاعتصام بالصوت الانساني المجرد بعيدا عن حرفية النقل وتسميتها ,منتسبا الى الـ(هو) و الـ(هم) بلون تجريدي لهذا الغياب .ويتضح ذلك حين يقول :
“………. هناك في الجوار …
كان ثمة من يحاول ان يشعل الفتيل من
ظهر انبوب ممتد بأتجاه المدينه ,ص7”
فنجد الشاعر ضيفا على المدينة ,تاركا الكلمات تؤثث حوارا بين الاشياء بحضورها الصامت .وهكذا تتكرر ثيمة المدينة/الحلم :
“افرك راحتي ,تطير حمامات بيضاء تعلو
سقف حجرتي تحوم وتهدل بصوتها الجميل
الذي يشوبه شيء ما من بقايا نواح اعياه
الانتظار. انظر الى المدينة من ثقب اوهامي
التي تتطاير من فأل نحس يتقول الاشاعة
والدمار الذي يزحف كالوباء ,ص58.”
ولابد من الاشارة الى ان الشاعر يضع في نصوص هذا الكتاب بصمته الخاصة من خلال وعي لغوي يسلط الضوء فيه على حيوات بيئته الاجتماعية ,فيمتلك هموما متاثرة بالهم الجمعي واحساسه بما يعانيه محيطه المجتمعي ,فيأتي الشعر لديه كبناء لواقع موازٍ للعالم الذي يحيطه.
ويلفت توظيف العنوان الرئيس كبؤرة نصية الانتباه الى حضور الانساق الشيطانية في تفاصيل الحياة اليومية ,وما يرافقه من كشف لاقنعة الزيف .مما يدفع المتلقي الى البحث عن المقاصد الفوق نصية من خلال علامات النص وسياقه الاجتماعي والتاريخي والنفسي والبيئي .ويستدرج المتلقي الى عالم سحري بالية التاثير الحسي والايحاء عبر تناصات تاريخية دينية تحاكي الواقع الغاطس في مشاهد الحزن والدمار والخواء النفسي والروحي والمادي :
“فقال احدهم الا تشاركنا الطعام ,
قال لا لقد اعددت لكم مائدتين من
الطعام لو كنت سمعت عكس ذلك
لشاطرتكم طعاما من الجنة ولكن
ما ستأكلونه الان هو لحم ابليس اشاح
بوجهه عنهم وغادرهم يصطحب رجلا يشع
وجهه نورا….,ص84-85”
واخيرا وليس اخرا ,توزع اهتمام الشاعر بين انتاج بنية النص فنيا وجماليا ,وسياقه الاجتماعي الخارجي. وقد اشتغلت منظومته الشعرية بتصعيد درامي يتزامن مع تصعيد مشاعر القارئ .