الاخبار العامةالثقافية

محمد رحيم الجوراني يؤرخ الناصرية

أ.د خالد حوير الشمس

جامعة ذي قار/ كلية التربية
يؤلف لنا الكاتب محمد رحيم الجوراني كتابا بعنوان: الوقائع المنسية لمدينة الناصرية، وصل ععد أجزائه إلى تسعة أجزاء، باشر في كتابته بعد أن انبلج الصبح على العراقيين، وزالت حقبة السواد، فبدأ يكتب سنة 2005م، وخرج الكتاب إلى النور سنة 2013 م، بعد أن عانى من عدم وجود فرصة للطباعة، بسبب كبر حجم الموسوعة.
يلفت نظري أن أجرّ الكتاب إلى زاوية تحليل الخطاب التاريخي، لأسجل تصورا عنه، توضيحيا، وتحفيزيا للكاتب الجوراني على ما جاد به قلمه، وكونه يمتلك من الخلق، والدماثة، والتواضع، وسمات أهل العلم، مما يجعلك تأنس به.
مما يلاحظ على عنوان الموسوعة عدم استقراره، وعدم ثباته، وخلوه من النزعة الاكاديمية التي ترى أن يكون العنوان دالا، مكثفا، موجزا، خاليا من الاعلامية، فقد حمل الجزء الأول عنوان( الموسوعة المصورة الشاملة الوقائع المنسية لمدينة الناصرية)، ثم حمل الجزء الرابع العنوان نفسه، وقد حذف منه بعض الشيء في بقية الأجزاء .
ينضم كتاب الجوراني إلى النمط التأليفي المسمى بتاريخ المدن، وهو مشهور على مدى الكتابة التاريخية منذ القدم، وقد جاء بعضها مجملا نحو: تاريخ المدن الإسلامية، تاريخ المدن المصرية، تاريخ المدن الجزائرية، وهكذا، وهناك كتب كثيرة تحمل ﭐسم مدنها، ومنها تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي.
السؤال المهم جدا، هل اقتصر الجوراني على الذي نُسي من أحداث الناصرية؟ بتصوري لم يقتصر على المنسي منها، بل يذكر لنا أحداثا، ووقائع، ذكرتها المصادر، والذي انماز به أنه يدون التاريخ من أهل الناصرية أنفسهم، ويدوِّن مجريات الناصرية الحديثة، فقد تحدث عن مهنها، ومعامل الطابوق فيها، والكور، والبناءين، والفلكجية (الذين يعملون في الزوارق).
ولعلي أنظر إلى هذه الموسوعة بعين الإكبار، والإجلال، فأراها جهدًا مهمًا؛ لأنه يصور حياة الناصرية، وحياة طوائفها اليهود، والصابئة، مما يجعلك ميالا إلى اقتنائه، فضلا عن عن أنه مشفوع بالصور، وسأتحدث لاحقًا عنها، يمارس الجوراني سمة المؤرخ الميداني في الحصول على المعلومة، مما حدا به الأمر أن يذكر أسماء الشخصيات اللامعة في الناصرية، التي أخذ منها بعضا من مادته، على الرغم من أنه لم يتخل عن المصادر التاريخية الضخمة، والمصادر التاريخية الحديثة.
يدخل الكتاب في حيز الأهمية؛ لاعتداده بهويته، وبانتمائه، حينما يتحدث عن الوقائع الجغرافية للعراق، ويورد تقسيمات علماء الهند للعالم القديم، فيذكر الأقاليم السبعة: أقليم بلاد الهند، والحجاز، ومصر، وبابل في الوسط، وبلاد الشام والروم، وبلاد الترك، والصين، وقد يترك الحديث عن هذه الأقاليم، ويدلل على مزية أهل بابل، فيرجع إلى كتب التاريخ، ويورد سمات الشخصية البابلية، فضلا عن أنه ينسب أصل الخلق في حضارة بابل .
تعتبر الغاية من التأليف غاية هوياتية؛ لأن الكاتب يضيف _ببراءة- سبب اهتمامه بالترايخ سببا واقعيا، فيذكر جلساته، ومسامراته مع رفقته وهو في الملاجئ العراقية إبان الحرب الثمانينية، فيتحدث كل منهم عن هويته، ومدينته، أو هوية هذه المدينة فإذا كانت النجف أو كربلاء كان الحديث عن قداستهما، وإذا كان الحديث عن بغداد كان لون الحديث حضريا، وإذا كان عن شمال العراق سادت البيئة الخضراء، بينما إذا جاء الحديث عن الناصرية، يجابهه هؤلاء بشياع اجتماعي (الشجرة الخبيثة)، و(الشروكية)، فيظن الجوراني أن هذا التصور المخطوء يحتاج إلى مراجعة، وعرض ما يضده لان الأشياء تعرف بأضدادها، فيعرض الجبهة الناصعة للناصرية، فكانت هه الحالات الأولى لتأليف هذا الكتاب، والدافع الآخر على كتابة هذا الكشكول التاريخي، دافع ديني، فذي قار تمتلك مؤهلا دينيا، وقداسيا، لأنها حضنت أبا الأنبياء، ثم الدافع الثالث، توافر بيئة الأهوار عليها، فيقول عنها (عروس الجنوب)، وقد فاته أن يورد السبب المهم جدا أنها تمتلك حضورا انثروبولوجيا عظيما، يمثل بوتقة من بوتقات التعاتيش السلمي، ففيها اليهود، والمسيح، والصابئة، والمسلمون على تعدد مذاهبهم، وقد حدا ذلك بأن يفرد لهذا التعدد كتابين هما الجزء الخامس، والسادس.
ثمة مائز منهجي في كتابه، يبرمج:
-في رجوعه إلى الكم الهائل من المصادر التاريخية، التي تتحدث عن العراق ولا سيما ما يكتبه الخطيب البغدادي، في كتابه تاريخ مدينة السلام، وخزعل الماجدي، في كتابه سفر سومر.
-ممارسة خطابه الايديولوجي على كتابته؛ إذ شكل سلطة على ذاته لا يمكنه أن يتخلص منها، وقد حاول أن يعزز ذلك بالأدلة، ليكون مقنعا، ومنه ذهابه أن الملك سرجون الأول هو (رجل العلمانية والحداثة الأول في التاريخ)، وعقد عنوانا في الصحيفة 34 من كتابه في الجزء الخامس عن الصابئة المندائيين، ثم يعزز ذلك بالأدلة، على استناد أنه ألغى محاكم الهيكل الديني، وقيامه بإنشاء محاكم مدنية، فضلا عن رفع أيدي الكهنة عن الملكية العامة، وإلغاء النظام الإقطاعي الأميري، وتوحيد التقاويم في البلاد .
-يحاول أن ينفرد في كتاباته، فيذهب إلى اللالئ المفقودة، التي لم يمر بها بحث، وباحث، ويبدأ هذا الهاجس من عنوان كتابه (الوقائع المنسية لمدينة الناصرية)، ثم يأتي بعنوانات لاحقة له، الصابئة المندائيون عبر التاريخ، موجز اليهودية والماسونية والوهابية، ومن أور إلى الهور، وهكذا حتى يبدأ بالتركيز على ذكر نهجه، والابتهاج به: ((ولهذا فإن ما أطرحه من بحث كامل لطائفة الصابئة هي محاولة من المحاولات الكثيرة التي يقوم بها بعض الباحثين الخيرين من العرب والأجانب لإظهار ما طمس من تاريخ طائفة الصابئة المندائية، ومحاولات تشويه دينهم بالإضافة الى التطهير العرقي التي تعرضت اليه باقي طوائف العراق والدول العربية)) .
-ميله نحو التبسيط، والتيسير في عرض المعلومات، قياسا بالكم الهائل من الكتب، والرسائل، والبحوث، وقد يعترف هو بذلك: ((وبحثي هذا هو مجرد مدخل لمعرفة ماهية هذه الطائفة ولو بشكل مبسط، وفقير بالمعلومات الأخرى التي لم أستطع الوصول إليها، وبكل حذافيرها، وعسى أني أوفيت غرضي بإيصال المعلومات الوافية لبقية الطوائف ولأصدقاء أفراها الذين لا يفقهون عن دين هذه الطائفة إلا النزر اليسير)) .
-يرتكز ايصال المعلومة التاريخية في كتابه على التاريخ المرئي أو الايقونة المرئية، فتضفي اللوحات الفنية او الصور التاريخية الموضوعة في الكتابة بعدا تقبليا، يدخل في افق التلقي من باب آخر، فهذه الايقونة تكون ساندة للمعلومة التاريخية، وأحيانا تكون منفردة، يضعها في بدايات الكتاب او في نهاياته؛ لتجعل المتلقي مندمجا بالتمام مع الفضاء المكاني الذي كتب عنه، فتكون الصور قد احتلت نسبة كبيرة من الكتاب تصل الى 40 بالمئة ربما من كل كتاب، ويمكن أن أنمط الصور بأنها صور للصغار، وللنساء، ولاسيما زيها، وتقاليدها، وصور لشيوخ العشائر، ووجهاء المدينة، وصور الفضلاء والنبلاء، وصور لأماكن، ولمشاحيف، ولقطات انثربولوجية تدخل في الطقوس، والعادات، وحتى صور لحيوانات تنتشر في هذا المكان دون مكان آخر، فضلا عن الصور الحداثوية، ومنها لجوء القرية الى تقانة الحياة، أو الحياة التقنية، فنرى بيتا فيه برج الانترنت، والستلايت، وصور للخطوط، والفعاليات كلها، فتحمل صوره دلالات عدة، فحينما يكتب عن الأهوار يدرج صورها، وحينما يكتب الزقورة يدرج صورهم، وحينما يكتب عن أور يدرج صورها، وحينما يكتب عن الصابئة يعمل على المنوال نفسه.
أحسب أنه جهد لا يخلو من نفع، ومادة تاريخية خصبة، من المفترض أن يصل إلى مكتبات العراق جميعها، ويوضع أمام أعين الباحثين في التأريخ الإسلامي، والحديث، ففيه من الطِّيب، والنكهة التاريخية ما يغنيك في ملء الفراغ، وكسب المعلومة اليقينية، مما يشكل بلاغة منفذا بلاغيا، أقول عنها: تحاول الكتابة التاريخية أن تجد لها معولا بلاغيا، يبتعد عن أفق الفصاحة، والالتزام الكتاب، والسير على قواعد اللغة، فلم تعد تؤمن بالصرامة النحوية، والصرامة المعجمية، بقدر ما هي تلتزم ببلاغة الإيصال، وإدراج المعلومة، وتقريبها إلى المتلقي بأيسر لغة، فيقترب الخطاب التاريخي ببلاغته من النصوص التي قيل فيها إن بلاغتها في عدم بلاغتها، فتندرج اللغة اليسيرة والسهلة في إيصال المعلومة إلى المتلقي، وتكاد تكون بلاغتها منعرجة في موضوعها المختار والمتحدث عنه، وتكاد تكون بلاغتها في الغرابة، فكلما كانت المعلومة غريبة، ونادرة على المتلقي كانت أبلغ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى